رسالة السيدة نجاة رشدي، نائبة المنسق الخاص والمنسقة المقيمة ومنسقة الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة في لبنان، بمناسبة اليوم الدولي للسلام
رسالة منقولة عبر أثير إذاعة لبنان بمناسبة اليوم الدولي للسلام
نحتفي اليوم باليوم الدولي للسلام، الذي يشكل محوراً أساسياً في عمل الأمم المتحدة. فالسلام لا يعني فقط الحرص على أن تكون أوطاننا خالية من النزاعات والحروب، بل يعني أيضاً إقامة مجتمعات مستقرة ومزدهرة قادرة على الصمود أمام التحديات، وحيث يتمتع فيها كل فرد بحرياته وحقوقه واحتياجاته الأساسية.
لا يخفى عليكم أننا نواجه اليوم في لبنان تحديات غير مسبوقة. فالأزمات المالية والاجتماعية والاقتصادية المتتالية بالإضافة إلى تداعيات جائحة كورونا وانفجار بيروت المدمّر الذي قتل حوالي 200 شخص، وأصاب الآلاف بجراح، وخلّف نحو ربع مليون شخص بلا مأوى، وأشعل فتيل التحركات الشعبية من جديد، إنما قد أرهق كاهل هذا الوطن وشعبه المناضل.
أكثر من أحد عشر شهراً قد مضوا على خروج اللبنانيين إلى الشوارع للتعبير عن تطلعاتهم المشروعة لمستقبل آمن وأفضل. ومع ذلك، لم نشهد تدابير حاسمة لتنفيذ الإصلاحات الضرورية التي طال انتظارها لتلبية تطلعات الناس. لهذا السبب، لطالما شجّعت الأمم المتحدة جميع القوى السياسية اللبنانية على تجنب الفراغ الحكومي المطوّل وعلى وضع مصلحة الشعب على رأس سلّم أولوياتها.
فلبنان يحتاج إلى تشكيلٍ سريعٍ لحكومة تتمتع بالدعم السياسي الضروري، حكومة قادرة على تنفيذ الإصلاحات الرئيسية والتغييرات الأساسية ضمن إطار زمنيّ محدّد بغية إعادة البلاد إلى مسارها الصحيح، واستعادة ثقة الناس بها وبمؤسساتها التي تآكلت بعد تراكم الأزمات الشائكة، واستعادة الدعم السياسي والدولي لها. فالحؤول دون اتخاذ إجراء فوري لتطبيق جدول أعمال إصلاحي لدى تشكيل حكومة جديدة، إنما ينذر بخطر انعدام الاستقرار في لبنان الذي من شأنه أن يضعف قدرته على التعافي وإعادة البناء وبالتالي احتمال انزلاقه نحو المجهول.
إن المخرج من الأزمة الحالية واضحٌ: يحتاج لبنان إلى إجراء إصلاحات هيكلية في مجموعة واسعة من القطاعات، من ضمنها القطاع المالي والقطاع المصرفي وقطاع الكهرباء والطاقة، والمضي قدماً في إصلاحات الجمارك والمشتريات العامة والشركات التي تملكها الدولة.
وإنني إذ أرحب بدور منظمات المجتمع المدني والجمعيات النسائية وغيرها من المنظمات الاجتماعية في سعيها المتواصل إلى تحقيق التغيير المرجو في لبنان والاستجابة لاحتياجات الناس في ظل الأزمات المتفاقمة، فإنني أؤكد مرة أخرى على ضرورة استجابة الإصلاحات الموعودة لمطالب الناس، بما في ذلك مطالبهم بتحقيق المساءلة والشفافية ووضع حدّ للفساد وسوء الإدارة.
وعليه، فإنّ تجديد الإطار السياسي والمؤسساتي للبنان، على أساس تطبيق الدستور بعيداً عن الطائفية، إلى دولة مدنية قائمة على سيادة القانون، وعلى مبدأّي العدالة والمساءلة، وتكافؤ الحقوق والفرص للجميع، لا سيما للنساء والشباب، إنما هو أمرٌ ضروريٌ لضمان سير الدولة، بمختلف مؤسساتها، في خدمة جميع اللبنانيين من أجل تحقيق الاستقرار الشامل والأمن والتنمية وتوفير مستقبل كريم لجميع أبنائه. فالجهود الحثيثة التي يبذلها الجيش اللبناني في مجال استلام وتوزيع المساعدات الإنسانية الدولية على المحتاجين والمتضررين من انفجارات بيروت، هي خير دليل على الدور الريادي والمهم الذي يمكن أن تؤديه مؤسسات الدولة للاستجابة لاحتياجات الناس وضمان احتياجاتها الأساسية.
بمناسبة اليوم الدولي للسلام، إسمحوا لي بأن أذكّر بأهمية العمل على تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة بلبنان، لا سيما القرار 1701 والقرار 1680 (الصادرَين عام 2006) والقرار 1559 (الصادر عام 2004)، والتي تهدف بصورة أساسية ومحورية إلى تعزيز السلام والأمن والاستقرار في لبنان. كما ولا بدّ من التنويه بأهمية تنفيذ سياسة النأي بالنفس والحياد عن كل الصراعات الخارجية، كما ورد في الإعلانات السابقة، لا سيما إعلان بعبدا الصادر عام 2012.
ولأن حرية الصحافة تندرج في صميم الحق في حرية التعبير، التي تشكل حقاً أساسياً من حقوق الإنسان، أغتنم الفرصة في هذا اليوم لأسلّط الضوء على الدور الطليعي الذي يؤديه الإعلام اللبناني – بكافة وسائله – في سبيل إعلام الجمهور بكل موضوعية ومهنية ومساهمته في إرساء السلام. ومن هنا، أكرّر دعوتي إلى ضَمان حماية وصَون حريات وسائل الإعلام وضمان الحق في حرية التعبير. فالحق في حرية التعبير والتجمّع السّلمي هما ركيزتين أساسيتين لمجتمع ديمقراطي، مثل لبنان، يتوجّب احترامهما على الدّوام، إن كان بالنسبة للمتظاهرين لجهة ممارسة حقهم في التعبير من دون عنف، أو بالنسبة للسلطات لجهة حماية هذه الحقوق.
وبما أنّ تحقيق السلام يستوجب أيضاً صَون حق الأفراد بحياة كريمة تلبي احتياجاتهم الأساسية، لا بدّ من الإشارة هنا في سياق تفجيرات بيروت التي دمّرت حياة الناس وممتلكاتهم وآمالهم، إلى استمرار الأمم المتحدة بتقديم المساعدة الإنسانية وتكيّفها مع الاحتياجات المتطوّرة للمجتمعات المتضرّرة، والعمل على إيجاد سبلٍ ناجعة تمهّد الطريق لتحقيق تعافي لبنان وإعادة إعماره على المدى البعيد.
إلا أنّ الحاجة إلى التمويل لا تزال ماسّة لمنع الأوضاع الإنسانية الراهنة من التدهور أكثر في لبنان. ولذلك، فقد عملنا مع شركائنا على إطلاق نداء عاجل في 14 آب/أغسطس لتأمين مبلغ 344.5 مليون دولار أمريكي، وهو مبلغ ضروري لتلبية الاحتياجات الفورية المنقذة للحياة لما يربو على 300,000 شخص على مدى الأشهر الثلاثة المقبلة، علماً بأنّه تم تأمين بحلول نصف هذا الشهر ما يزيد قليلاً عن 17 في المائة من هذا المبلغ المنشود (أي ما يوازي 59.8 مليون دولار).
إلا أنّ الاحتياجات كثيرة ومتنوعة. فإلى جانب المساعدة الإنسانية الفورية، يحتاج لبنان إلى مساعدة جوهرية وطويلة الأمد لدعم الإصلاح الاقتصادي والإنعاش وإعادة الإعمار. فها نحن نصوّب جهودنا الآن نحو إعداد خطة شاملة للتعافي والإصلاح وإعادة الإعمار في أعقاب انفجار بيروت. وهي خطة نتولّى إعدادها بالتعاون الوثيق مع الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي، واستناداً إلى مجموعة واسعة من التقييمات والاستشارات التي تُعقد حالياً مع مختلف الجهات المعنية، من جهات حكومية، فمجتمع مدني، والقطاع الخاص والمجتمع الأكاديمي ومنظمات الأمم المتحدة. ويأتي هذا الإطار الذي ندأب على إطلاقه في الأسابيع المقبلة، في ضوء التقييم السريع للأضرار والاحتياجات الذي صدر مؤخراً عن البنك الدولي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، والذي يشكل ركيزة أساسية لمضمون إطار التعافي للبنان.
ها أنا اليوم، عبر أثير إذاعة لبنان، أناشد الجميع بتجديد العزم على اتخاذ كل ما يلزم من تدابير لاعتماد خطاب السلام والمصالحة والتهدئة، والعمل سوياً يد بيد، بمختلف خلفياتنا وانتماءاتنا السياسية والمذهبية، على تعزيز ثقافة السلام في كل ما نصبو إليه من أعمال حتى ينعم لبنان دوماً بالسلام والأمان والازدهار.
كلّ يوم سلام وأنتم بألف خير.