مؤتمر إفتراضي حول "جمع وإدارة المعلومات في حالات الاختفاء القسري ومقاربة الممارسات في لبنان"
كلمة السيدة نجاة رشدي، نائبة المنسق الخاص والمنسقة المقيمة ومنسقة الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة في لبنان
السيدات والسادة المحترمين،
الحضور الكريم، صباح الخير،
يُسعدني كثيراً أن أكون حاضرة معكم اليوم في هذا الاجتماع -وإن كان إفتراضياً - وأن نتشارك سويّاً في موضوع الاختفاء القسري وفي أهمية التكنولوجيا والفضاء الرّقمي في المساعدة على كشفِ الحقائق وتوثيق الانتهاكات، وكَشفِ النِّقابِ عن مَصيرِ المفقودين، والتّداول بشأن الفُرَص التي تُقدِّمُها التكنولوجيا في هذا المِضمار ولكن أيضاً التحدّيات التي يُمكِن مواجَهَتها... وهي جميعُها مواضيعَ حيويّة سيناقشُها الخُبراء بإسهابٍ في مختلف جلسات هذا الاجتماع.
يُعتبر الحقُّ في المعرفة والحقُّ في العدالة من المُسَلَّمات في عمليات "التعامل مع الماضي". ولكن منذ نهاية الحرب الأهلية في لبنان، لم يتمكن الشعب اللبناني من التمتّع بتلك الحقوق مما أثّر سلباً على قدرته على مداواة جراح الماضي المُؤلِمة.
وقد شكّل انفجار مرفأ بيروت المأساوي الذي وَقَعَ في الرّابع من آب من السنة الماضية، صدمةً أخرى في نفوسِ اللبنانيين ففتحَ جروحاً قديمة لدى النّاجين والضّحايا الذين عبّروا بوضوحٍ تامّ، مراراً وتَكراراً، أنّه لن يُشفى غليلُهُم إلا بعدَ معرفةِ ما حدث في هذا اليوم المأساوي، وتحقيق العدالة والمساءلة، وهي جميعها مطالب شرعيّة.
والحقَّ في المعرفة مُرتبطٌ شديد الارتباط بمَلَفِّ المفقودين والمُختَفين قَسريّاً الذي يشكِّلُ عنصراً أساسيّاً في التعامل مع الماضي، بما يحقق المصالحة الوطنية ويَحفَظ الذّاكِرة الجماعية ويساهم في تكريس منظومة حقوق الإنسان.
سيّداتي وسادتي،
إنّ الاختفاء القسري هو جريمة شَنعاء بحقّ الإنسانية، بحقّ الضّحايا، ولكن أيضاً بحقّ أُسَرِهِم ومُجتَمعاتهم لأنّ الإفلاتَ مِنَ العِقاب يُضاعِفَ قَسوَةَ المُعاناة ويَغرُزُ في قلوب أهالي المفقودين ألماً مُبرحاً بالظّلم والفُقدان. فبِحَسَبِ القانون الدُّولي لحقوق الإنسان، من حَقِّ الأُسَر والأفراد أن يعرِفوا حقيقةَ ما حدث لأحبّائهم، وهو ما يُلزِمُ الدول الأعضاء، بما فيها لبنان، بالاضطلاعِ بهذه المسؤولية تحقيقاً للعدالة.
وهنا، لا بدّ من أن أُثنِي على جهودِ مجلس النواب اللبناني، لا سيّما جهود لجنة حقوق الانسان ولجنة الإدارة والعدل، في إقرار القوانين التي تُتيح تطوير وَصَون وحِماية حقوق الإنسان في لبنان. كما أودّ التّنويه بشكلٍ خاص بالقانون رقم (105) الذي تم إقراره عام 2018 والخاص بإنشاء الهيئة الوطنية لمتابعة قضايا الاختفاء القسري في لبنان. فإصدار هذا القانون إنّما يُجَسِّدُ التزاماً حقيقياً من الحكومة اللبنانية بالوَفاء بالتزاماتها لجهة الكشف عن الحقيقة لصالح أُسَر وأقارب المفقودين وضحايا الاختفاء القسري.
وفي هذا الإطار، وبعد سنتين على إقرار هذا القانون، وعلى الرّغم من التحدّيات والأزمات التي تَعصِفُ بالبلاد، لا بدّ من تفعيل عمل هذه الهيئة والإسراع في استِكمال تشكيلِها، لما لها من أهميةٍ قُصوَى في تسريع عَجَلة إيجاد مصير المخطوفين والمفقودين، والتحقيق في تلك الحالات، والحصول على المعلومات وتوثيقها، وهو ما قد يكفُل الحدّ من مُمارسات الخَطفِ الجائرة ومكافحة إفلات مُرتَكِبي جريمة الاختفاء القسري من العقاب.
وفي هذا السياق، أدعو معالي وزيرة العدل إلى أخذ المبادرة في هذا المِضمار والإسراع في تشكيل هذه الهيئة وتفعيل عملِها بُغيَةَ الكَشف عن مصير آلاف الأشخاص المَخفيّين قسراً ومَدِّ يدَ العَونِ إلى أُسرِهم ومجتمعاتهم، وبالتالي تكريس الحقّ في معرفة الحقيقة لجميع أقارب الضحايا من دون أي تمييز.
كما أدعو، من على هذا المَنبَر الإلكتروني، السلطة التنفيذية وعلى رأسها رئاسة مجلس الوزراء ووزارة العدل، إلى رصد الموارد البشرية والماديّة اللازمة لإطلاق عمل الهيئة الوطنية لمتابعة قضايا الاختفاء القسري، والمساهمة في تعزيز نتائجها الواعِدة في هذا المضمار.
أيها الحضور الكريم،
إنّ صَون حقوق الإنسان هو عملية مُتكامِلة تتطلّب إرادة سياسية صَلبة والتزاماً قوياً بهذه الحقوق المَشروعة وبتحقيق العدالة الاجتماعية، وتعزيز سيادة القانون فوقَ كُلِّ اعتبار.
ولذلك، تُواصِلُ الأمم المتحدة، بصفَتِها الرّاعي الأساسي لحقوق الإنسان، مَساعيها في سبيل دَعم كافة الجُهود المبذولة في ملفّ الاختفاء القَسري في لبنان وفي مساعدة الحكومة على تنفيذ القانون تنفيذاً فعّالاً بهدف وضعِ حدٍّ لهذا السلوك الخارج عن القانون والذي لا يزال للأسف يُستخدَم كأداة لقَمعِ المُعارِضين السياسيّين أو المناضلين والمدافعين عن حقوق الإنسان.
وهنا، لا بُدَّ من أن أنوِّه بجهود المفوّضية السّامية لحقوق الإنسان لجِهَة توفير الخبرات الدُّوليّة والإقليمية، ووضعِ هذه الخُبُرات في تَصَرُّف الهيئة الوطنية لمتابعة قضايا الاختفاء القسري في لبنان وفي خِدمة السلطَتين التنفيذية والتشريعية، بُغيةَ الاستفادة منها تحقيقاً للعدالة والأمن والسلام.
وأخيراً، إسمحوا لي أن أُحيّي مشارَكَتِكُم المشكورة في هذا الاجتماع التي نلمُس فيها تمسُّكاً مَحموداً بنُهُج الحِوار والتَّلاقي وتحقيق العدالة، والتزاماً مُقدَّراً بِدَعمِ المَغبونين والمفقودين وبوضع حدٍّ لهذه الجريمة الرّديئة بحقّ الإنسانية.
أتمنّى لمداولاتكم كلَّ النَّجاح والتَّوفيق.
وشكراً.