حفل إطلاق "ملف مدينة بيروت" الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية
كلمة السيدة نجاة رشدي، نائبة المنسق الخاص والمنسقة المقيمة ومنسقة الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة في لبنان
دولة رئيس مجلس الوزراء الدكتور حسان دياب المحترم،
الزملاء الأعزاء من المكاتب العالمية والإقليمية والوطنية التابعة
لبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية،
الحضور الكريم،
تعرّفتُ الأسبوع الماضي على خمس قصص إنسانية مؤثرة جداً تعكس الواقع المؤلم والمرير للوضع الاقتصادي الرّاهن في لبنان والذي لا يلبث يزداد سوءًا يومًا بعد يوم.
من بين هذه القصص، قصّة يوسف: رجلٌ لبناني يبلغ التاسعة والخمسين من عمره، يعيش منذ بعض الوقت في شوارع بيروت "بلا مأوى" ومن دون ذرّة أمل. حُلمه ببساطة هو "أن يكون له بابٌ يمكن إغلاقه عندما ينام وسقفٌ يحميه". والمفارقة الغريبة أنّ حُلُمَ يوسف هو فعلياً حقٌ من حقوق الإنسان الأساسية.
لا يخفى عليكم أنّ الوضع في لبنان يتدهور باستمرار وبشكلٍ مُطّرِد، وباتَ لا يُحتمَل بالنسبة لعامة الناس مثل يوسف. فكيف لا؟ وها هم يرزَحون تحت وطأة الانهيار الاقتصادي والمالي، والآثار الكارثية التي خلّفتها انفجارات مرفأ بيروت، ناهيك عن التأخير في تشكيل حكومة تتمتع بصلاحيات كاملة قادرة على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة وتحقيق التعافي المنشود.
أثَّرَ انفجار مرفأ بيروت المروّع الذي اندلع في الرابع من آب/أغسطس 2020 تأثيراً ملحوظاً على البنية التحتية لمدينة بيروت. فقد غيّر وجه بيروت بالكامل وحَرَمَ العديد من الأسَر من المأوى وجعَلَها تعاني من وضعٍ سَكَنيّ غير مستقرّ، مما أدّى إلى تفاقم ظروف المعيشة، لا سيما بالنسبة لأولئك الذين كانوا يعيشون بالأصل في مأوى أو مسكَن غير لائق وغير آمن.
تضرَّرت آلاف المنازل أو حتى تدمّرت بالكامل بسبب الانفجار الذي جعل مئات الآلاف من الأشخاص بلا مأوى أو دفعهم إلى الإقامة في مناطق لا تزال مُعرَّضة للخطر ... زُرتُ عائلات دُمِّرَت مَنازِلُها بالكامل وتدَمَّرَ معها مستقبلُها وآمالُها، وقابلتُ أطفالاً فَقَدوا الشّعورَ بالأمانِ في منازلهم وأحيائِهم التي طالما كانت بيئتَهُمُ الحاضِنة والآمِنة. كما التقيتُ أشخاصاً أكّدوا لي أهمية عودة أطفالهم إلى المدرسة حتى يستعيدوا أملهم بمستقبل أفضل، والحاجة إلى ترميم منازلهم لضمان سلامتهم وحمايتهم وصَون كرامتهم ورفاههم الشخصي.
أصحاب السعادة والمعالي، السيدات والسادة الكرام،
إنّ الأزمات الحالية المتتالية والاستثنائية التي تَعصُفُ بلبنان تتطلّب منّا اعتماد طرق عمل غير عادية. بالفعل، استجابةً لهذه الأزمات، قام فريق العمل الوطني التابع للأمم المتحدة، من خلال وكالاته الوطنية الـ26، بمضافرة جهوده دعماً للبنان في عملية الاستجابة لأزماته المتعدّدة الأوجه، وذلك بطريقة سريعة، ومُنسَّقة، وبالاعتماد على الأولويات الملحّة والمختلفة، ناهيك عن دعم الحكومة اللبنانية وجميع المُقيمين على الأراضي اللبنانية مع الالتزام بالدفاع عن حقوق الناس في الكرامة والسلام والعدالة.
واعتماداً على مهامها السّامية، ركّزت وكالات الأمم المتحدة العاملة في لبنان على المساعدة في معالجة الجوانب المختلفة للتحديات الإنسانية والإنمائية الطويلة الأمد التي تواجه البلاد، لا سيما في مجال الحَوكَمة، والاقتصاد، والحماية الاجتماعية، وإرساء السلام والاستقرار؛ وفي مجال تأمين الخدمات الأساسية والاجتماعية؛ وتأمين المأوى؛ وحماية البيئة؛ وصَون التراث الثقافي. وفي الوقت عينه، قمنا بإنشاء آليات تنسيق للاستفادة إلى أقصى حدّ من مختلف أوجه التآزر والتعاون وتجنّب التداخل في استجاباتنا وجهودنا المبذولة في سبيل التعافي.
وإلى جانب الجهود الإنسانية التي بُذلت للاستجابة لانفجار مرفأ بيروت المدمّر، قُمنا مع الاتحاد الأوروبي ومجموعة البنك الدولي وبالتعاون الوثيق مع الحكومة اللبنانية، بتطوير إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار للبنان (المعروف باسم 3RF)، الذي يرتكز على الإنسان أوّلاً. ويهدف هذا الإطار إلى ربط الاستجابة الإنسانية الفورية بجهود التعافي وإعادة الإعمار المبذولة على الأمد المتوسطبهدف وضع لبنان على مسار التنمية المستدامة. ويتعلق هذا الإطار بالأشخاص الذين فقدوا منازلهم، وبالعائلات التي فقدت أحبّاءها، وبأولئك الذين فقدوا خبزهم اليومي، وآمالهم، وأعمالهم التجارية، وخسروا سنوات من العمل ومن مدّخراتهم المشروعة. ويشجّع إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار على اتّباع نهج متكامل في جميع القطاعات، ويسترشد بمبادئ الشفافية، والمساءلة، والشمولية. وقد تم اعتماد طريقة عمل جديدة في مسار إعداد هذا الإطار ووضعه قيد التنفيذ، إذ تم التعاون بشكل وثيق ومنذ البداية مع الحكومة اللبنانية والمجتمع الدولي ومنظمات المجتمع المدني لجعل هذا الإطار تشاركياً بامتياز. ففي الوقت الذي نتحدث فيه، تقوم هيئة الإشراف المستقلة بقيادة المجتمع المدني، بإرساء الأسس الضرورية لعملية الإشراف على تنفيذ هذا الإطار بصورة فعّالة.
إنّ ضمان المأوى والمَسكَن هو في صلب أولويات إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار، وضمن المشاريع الخاصة به التي تتمحور حول إعادة بناء المنازل المتضرّرة من جرّاء الانفجار بالإضافة إلى المباني التاريخية وغيرها من البنى التحتية، بما في ذلك تطوير الأحياء المتضررة والضعيفة التي تأوي الفقراء والفئات الأكثر ضعفاً.
وتُعَدُّ الدراسة التي يطلقها اليوم برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية عن مدينة بيروت مرجعًا رئيسيًا لدعم عملية تنفيذ إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار. فهي تقدّم منظورًا في غاية الأهمية لجهة المساحة الكاملة للأحياء المتضرّرة والأماكن المُهدّمة، بما يشكل أساساً مهماً ومرجعياً لجميع الجهات المعنية السّاعية إلى المساهمة في تحقيق التعافي وإعادة الإعمار في بيروت.
والأهم من ذلك أنّ هذه الدراسة تقدّم فرصة مهمّة للتفكير والنظر عن كثب في احتياجات الناس المتعددة الأبعاد، إذ أنها تعتمد نهجاً شاملاً ومتعدّد القطاعات قائماً على المناطق ويُعنى بتحليل وتشخيص العاصمة بيروت.
ففي بلدٍ شديد التحضّر مثل لبنان، ثَبُتَ أنّ إتاحة البيانات والتحاليل الحَضرية إنّما هو أمرٌ ضروري للاستجابة للأزمات غير المتوقعة وللمساعدة على تعزيز قدرة مدينة بيروت وسكانها على الصمود في المستقبل أمام صدمات وأزمات مماثلة.
أصحاب السعادة والمعالي، السيدات والسادة،
عالميًا، يُعتبر تأمين المأوى/المسكن الملائم أحد أكثر الاحتياجات الأساسية للإنسان. وبالنسبة لي شخصياً، فالمسكَن هو أكثر بكثير من مجرّد سقف. إنه منزل يحتمي فيه الإنسان، وهو مصدر أمان وضرورة لصَون كرامة الإنسان!
وبغية جعل لبنان أكثر أماناً واستدامةً، نحتاج إلى اتخاذ إجراءات حاسمة. وفي هذا الصدد، فإنّ الدراسة التي نُطلقها اليوم حول مدينة بيروت، إلى جانب غيرها من الدراسات والتقارير التي أصدرها برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية في الأشهر الماضية عن مدينة بيروت وعن أحيائها، إنّما تشكل موارد قيِّمة لاستخدامها في مساعينا المشتركة "لإعادة البناء بشكل أفضل" وبطريقةٍ أكثر حِكمَة.
أدعو جميع الجهات المعنية، من بين الموجودين بيننا اليوم وغيرهم، إلى الاستفادة من هذه الموارد المُتاحة إلى أقصى حدٍّ مُمِكن لأنها توفّر قاعدة مهمة مبنية على الأدلة والمعلومات الموثوقة فتساهم في تعزيز جهودنا المستمرّة لبناء مجتمعات قوية ومُدُنٍ أكثر شمولاً، ومرونةً، واستدامة.
وشكراً.