الاجتماع التشاوري الوطني حول التعليم
كلمة السيدة نجاة رشدي، نائبة المنسق الخاص والمنسقة المقيمة ومنسقة الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة في لبنان خلال الاجتماع التشاوري الوطني حول التعليم.
دولة رئيس مجلس الوزراء السيد نجيب ميقاتي المحترم،
معالي وزير التربية والتعليم العالي الدكتور عباس الحلبي المحترم،
أصحاب المعالي والسعادة،
السيدات والسادة،
صباح الخير،
إسمحوا لي بدايةً أن أشكركم على دعوتي للمشاركة في هذه الفعالية المهمة في هذه الأوقات الصّعبة التي يتخبّط فيها أطفال وشباب وشابات لبنان ضمن حَلَقَةٍ مُفرَغة من الحُرمان من الخدمات الأساسية، من بينها التعليم وفُرَص العمل والتطَوّر.
فالظروف الصعبة التي يرزَح تحت وطأتها لبنان، تُثقل كاهل المواطن اللبناني قبل كلّ شيء، وتُلقي بظِلالِها على القطاع التعليمي الذي لطالما تغنّى به لبنان. فلبنانُ اليوم يعاني من أزمة تعليمية لم يَسبِق لها مثيل، سواءً على مستوى التعليم العام أو على مستوى التدريب التقني والمهني والتعليم العالي. فها نحن نشهد للسنة الثالثة على التوالي انقطاعاً في التعليم. وبدأ ذلك يأخذ بُعداً دراماتيكياً مع بقاء الطلاب خارج المدرسة، وهي ظاهرة مُخيفة وكارثة مُجحفة بحقهم!
إسمحوا لي هنا أن أشارككم مخاوِفي وقَلَقي في هذا الإطار، وهو قَلَقٌ يرتكز على حقائق وأرقام صادِمة لا بُدَّ من تسليط الضوء عليها: فخلال العام الدراسي الحالي 2021-2022، فَتَحَت المدارس الرسمية أبوابها للتعلم الحضوري لمدة 25 يوماً فقط، في حين لم تتعدَّ الـ11 يوماً فقط للأطفال اللاجئين. هذا وقد انخفض معدّل الالتحاق بالمؤسسات التعليمية من 60 في المائة خلال 2020-2021 إلى 43 في المائة في العام الدراسي الحالي، أي 2021-2022. والمُقلِق بالأمر هو كثافة التسرّب المدرسي والتردّي في مستويات مَخرجات التعليم في مرحلة التعليم الأساسي على وجه الخصوص والتي تشكل الأساس الذي تُبنى عليه المراحل التعليمية التي تأتي بعدها. فتقديرات 2020-2021 تشير إلى أنّ 22٪ من الأطفال اللبنانيين و63٪ من الأطفال غير اللبنانيين كانوا خارج المدرسة. وهذه نِسَب عالية ومُخيفة لأنّ تبَعاتها وخيمة على المجتمع اللبناني وعلى نموّ البلاد. فهذا يعني أنّ حوالي 707,000 طفل وطفلة تتراوح أعمارهم بين الثلاث سنوات والـ18 سنة هم معرَّضون لخطر عَدَم العودة إلى المدرسة أبداً ولإضاعة الفرص في حياتهم. ولا يَخفى عليكم أنّ الأكثر عُرضةً لخطر عدم العودة إلى التعليم هم الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، والفتيات والمراهقات، والأطفال اللاجئين، والأطفال الأكثر فقراً، والمُنخرطين بعمالة الأطفال، وضحايا الزواج المُبكِر.
وما يُنذِرُ بحجم خطورة هذه الأزمة هو أنّ مستوى القراءة لدى الطلاب في الصفَّين الثاني والثالث بات أدنى بكثير من المتوقّع، بحسب ما أظهرته دراسة حديثة أُجرِيَت لحوالي 2,362 طالب وطالبة في 120 مدرسة رسمية لبنانية.
أما فئة الشباب فهي الأضعف، حيث بات 31 في المائة من الشباب والشابات خارج دائرة التعليم أو العمل أو حتى التدريب، لأسبابٍ مادية مَحضَة حيث أنّ أكثر من 4 من كل 10 شباب وشابات في لبنان اضطروا على تخفيض الإنفاق المخصَّص للتعليم لشراء المواد الغذائية الأساسية والأدوية وغيرها من المواد الأساسية، في حين أوقف 3 من كل 10 شباب وشابات تعليمهم بشكل كامل. وإذا ما نظرنا إلى واقع اللاجئين الأليم فتُبيّن تقييماتنا الأخيرة أنّ هذه الظاهرة شائعة بين اللاجئين حيث ارتفع عدد أُسَر اللاجئين الذين خَفّضوا نفقات التعليم المُخصَّصة لأولادهم من 20٪ في عام 2020 إلى 29٪ في عام 2021.
وللأساتذة حِصَّتهم الموجِعة من هذه المآسي والمصاعب، حيث باتوا عاجزين عن تغطية نفقاتهم الأساسية، من بينها تكاليف النقل. فبحسب التقديرات الأخيرة، هاجر حوالي 30 في المائة من أساتذة الجامعات في العامين الماضيين، بحثاً عن فرص عمل أفضل. علماً أنه في بعض الحالات، وصلت نسبة المدرِّسين في مجال العلوم التطبيقية (كالطب والهندسة والصيدلة) الذين تركوا وظائفهم إلى 80 في المائة، في حين عبّر ما يربو على 50 في المائة من الأساتذة الذين بقوا في لبنان عن رغبتهم واستعدادهم لمغادرة البلاد إذا سنحت لهم الفرصة. وهذا مؤشرٌ خطير لا يدلّ إلا عن فقدان الأمل، والشعور باليأس والإحباط من واقعٍ مَرير لم يَعُد يَخدُم طموحات الشباب وتطلّعاتِهم... وهذا مثيرٌ للقلق لما لِهِجرة الأدمغة في لبنان من تأثيرٍ ملحوظٍ على الرأس المال البشري وعلى التماسك الاجتماعي وبالتالي على استقرار البلاد.
لا شكّ أنّ هذه الأرقام والوقائع مُقلقة جداً، ولكن المُخيف أكثر هو عواقب هذه الأزمة التعليمية على الأمد المتوسّط والبعيد. ففُقدانُ فرص التعلّم لا تعني فقط فقدان فرص تعلّم مهارات القراءة والحساب التي يحتاج إليها كل فرد في المجتمع، إنما تعني أيضاً الحرمان من اكتساب المهارات الحياتية، ومن التمتّع بمساحات آمنة في كَنَف المؤسسات التعليمية، والحرمان من وجبات الطعام واللِّقاحات وخدمات الحماية التي يتم توفيرها في بعض المدارس. وهذا يعني أيضاً أن يصبح الأطفال أكثر عُرضةً للعنف وللاستغلال الجنسي والجسدي، وضحيةَ الزواج المُبكر، والانخراط في الجماعات المتطرّفة والإرهابية وما إلى ذلك من نتائج مروّعة.
نجتمع اليوم تحت قيادة دولة رئيس مجلس الوزراء ووزير التربية والتعليم العالي لأننا نريد إيجاد الحلول الفعّالة لمساعدة الجيل الصّاعد من الخروج من براثِن الفقر، ومن بُؤَر اليأس والإحباط، واستعادة الأمل بمستقبلٍ واعدٍ. فلا بُدّ من أن نَعِيَ حقيقةً هذا الواقع الأليم وأن نعملَ على تعزيز جهودِنا وقُدُراتِنا المعرفية لابتكار الحلول النّاجعة لإنقاذ قطاع التعليم.
الحضور الكريم،
إذا ما سألتمونا عمّا هي الأولوية الأولى بالنسبة لنا لتحقيق لبنان أفضل وضمان تعافيه المستدام، فلا شك في أننا سنقول بقناعَةٍ مُطلقة: ضمان التعليم الجيد للجميع، ومن دون أي استثناء! لأننا نؤمن إيماناً قوياً بقدرات شباب لبنان، وبمهارات وذكاء وإبداعات الرأس المال البشري اللبناني بشكلٍ عام. فبالتعليمِ تَشُقُّ الأمم طريقها نحو التنمية والتطوّر والابتكار وتحمي نفسها من الاندثار.
ولذلك، فنحن نعمل بلا هَوادة، مع شركائنا، على دعم التعليم في لبنان على مختلف الأصعدة وعلى إعادة فتح المدارس، من خلال مجموعة من المبادرات سأذكر البعض منها: (1) كدفع رسوم التسجيل لأكثر من 450,000 طالب وطالبة في المدارس الرسمية وفي التدريب المهني والتقني؛ (2) زيادة التمويل لصناديق المدارس بما يغطّي نفقات التشغيل الأساسية الخاصة بها؛ (3) توفير المواد التعليمية لجميع الأطفال المُسجَّلين في المدارس الرسمية والمدارس الخاصة المُعرَّضة للخطر؛ (4) إتمام حملات التطعيم للطاقم التعليمي وللتلامذة؛ (5) توفير لوازم النظافة الشخصية ومستلزمات الوقاية الشخصية لدعم صحة وسلامة الأطفال والأساتذة وموظفي المدارس؛ (6) تقديم المساعدة النقدية لدعم تعليم 87,000 طفل وطفلة من بين اللبنانيين وغير اللبنانيين الأكثر ضعفاً؛ (7) دعم عملية مراجعة وإصلاح المناهج اللبنانية للاستجابة للاحتياجات الناشئة ومهارات القرن الحادي والعشرين..... وتَطول اللائحة لتضمّ المزيد من البرامج والمناهج المَرنة التي تخدم احتياجات الأطفال الأكثر ضعفاً، بما في ذلك اللاجئين؛ بالإضافة إلى توفير الوقود للمدارس الرسمية لضمان استمرارية التعليم فيها خلال دوامَي الصباح وبعد الظهر على حدٍّ سواء. كما ولا بدّ من أن أشير هنا أيضاً إلى استكمالنا لعملية إعادة تأهيل وترميم 145 مدرسة ومعهد للتعليم والتدريب التقني والمهني من بين المؤسسات التعليمية التي تضرّرت من جراء انفجار مرفأ بيروت المدمِّر.
السيدات والسّادة المحترمين،
بصفتي المنسقة المقيمة للأمم المتحدة ومنسقة الشؤون الإنسانية في لبنان، ولكن على وجه الخصوص بصفتي مُدَرِّسَة سابقاً، فإنني أُدرِك تماماً الأهمية الحيوية للتعليم ولنتائجه الواسعة النطاق. فهذا أساسٌ لا غنى عنه لبناء مستقبل أفضل للأجيال الصاعدة ولمستقبل وازدهار البلاد.
وبالتالي، نكرِّس اليوم في هذا الاجتماع التشاوري دور التعليم في تحقيق تعافي لبنان، وندعو إلى العمل بجدّية، واتخاذ خطوات فورية للتخفيف من آثار أزمات لبنان المتراكمة على قطاع التعليم بشكلٍ عام، وعلى الأطفال وفئة الشباب بشكلٍ خاص. فمن دون التزامٍ قويٍّ بهذا الشأن سنكون أمام مشكلة كبيرة ألا وهي معالجة آفات وتَبَعات "فقر التعليم" التي من شأنها أن تؤثر تأثيراً مدمّراً على مهارات وإنتاجية الجيل الصّاعد والفرص المُتاحة له، مما يؤثر بدوره على نموّ البلاد وازدهاره واستقراره وتماسكه الاجتماعي.
وانطلاقاً من ذلك، تضع الأمم المتحدة – مع شركائها من منظمات المجتمع المدني - في طليعة اهتماماتها وأولوياتها هذه الغاية السامية، ألا وهي حماية قطاع التعليم وتوفير حق التعلّم لكل طفل وطفلة، لكل شاب وشابة. وعليه، فها أنا أدعو إلى:
أولاً- فتح جميع المدارس والجامعات، وإبقائها مفتوحة دوماً وتوفير التعلّم الحضوري للجميع. هذه أولوية وطنية عاجلة، ضرورية، وحتمية!
ثانياً- تسجيل وإلحاق كلّ طفل وطفلة بالمدرسة وضمان تعلّمهم، بغض النظر عن وضعهم الاجتماعي أو جنسيتهم أو نوعهم الاجتماعي. وهذا يعني تمديد الموعد النهائي للتسجيل وتمديد السنة الدراسية، والعمل مع الشركاء لضمان تسجيل كل طفل وطفلة في المدرسة.
ثالثاً- ضرورة اتّباع حلول مَرِنة للنظام التعليمي، بما في ذلك التكنولوجيا المُتاحة، ومراجعة رزنامة العام الدراسي، وتنفيذ البرامج الكفيلة بتحقيق تعافي قطاع التعليم.
رابعاً- إتاحة الفرصة لكل طفل وشاب وشابة خارج نظام التعليم الرسمي حالياً لاستئناف التعلّم. ولمنظمات المجتمع المدني الشريكة دورٌ فاعلٌ في تحقيق ذلك.
خامساً- ضمان وصول كل طفل وكل أسرة على الدعم الذي يحتاجون إليه لضمان التحاق أطفالهم بالمدرسة لفترةٍ أطول، وبالتالي الاستفادة بأكبر قدَرٍ ممكن من المعرفة والعلم.
سادساً- تقديم الدعم اللازم للأساتذة، وتحفيزهم على العودة إلى التعليم، وتزويدهم بالأدوات الضرورية الكفيلة باحتِضان الأطفال ضمن بيئة آمنة تساعدهم على التعويض عما فقدوه من معرفة، وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي لهم.
سابعاً- تمكين التعليم العالي من تقديم البيانات الشفافة والشاملة عن التعليم الرسمي وغير الرسمي وعن حجم التسرّب المدرسي، والعوائق والتحديات التي تواجه التعليم بصورة مُجملة وتلك التي تواجه الطلاب من مختلف الجنسيات والخلفيات.
وثامناً- ضمان الحوار المُنتظِم وتعزيز التنسيق بين جميع الشركاء في قطاع التعليم، بما فيها منظمات المجتمع المدني والأمم المتحدة وغيرها من الجهات المعنية.
أيها الحضور الكريم،
نحن أمام لحظة مِحوَرية للنهوض بقطاع التعليم وجَعلِهِ أكثر ملاءمةً للأطفال والشباب في لبنان في ظلّ الظروف السائدة والتطوّر التكنولوجي الذي يشهده العالم. فما يحتاج إليه لبنانُ اليوم هو نظام تعليمي حديث قادر على بناء المهارات الضرورية التي يحتاج إليها سوق العمل.
وما يحتاج إليه لبنانُ أيضاً هو مُضافرة الجهود والعمل معاً، بقلبٍ واحدٍ وعزيمةٍ قويّة، لتنفيذ الخطة الخمسية الشاملة للتعليم العام، والخطة الخمسية للتعليم العالي، ولتحقيق الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة المعني بـ"ضمان التعليم الجيد، المُنصِف والشامل للجميع"...
ختاماً، أتمنى أن يكونَ هذا اللّقاء التشاوري، حافزاً لنا جميعاً - ناشطين ومسؤولين أُمميّين وصانعي قرار - للتسلُّح بإرادة صلبة لتبنّي نهج مشترك لضمان التعليم الجيد والمتواصل لكل طفل وطفلة، لكل شاب وشابة، كهدفٍ سامٍ، حيويٍّ ومُشترك نسعى معاً إلى تحقيقه عبر تعزيز إرادتنا السياسية وقِيَمنا الإنسانية، لأنه، بالفعل، للتعليم قيمةٌ إنسانية لا مثيل لها.
وشكراً.