إعادة بناء الأمل: مسيرة لبنان نحو التعافي المستدام من خلال إدارة الأنقاض
٣٠ أبريل ٢٠٢٥
عنوان الصورة: Photo taken by Pasqual GORRIZ on 2 July 2024 during a UNIFIL logistical convoy departing from Naqoura and crossing the entire UNIFIL area of operations near Kfar Chouba, South Lebanon.
في لبنان، تدعم الأمم المتحدة إدارة الأنقاض المستدامة في البلاد لتحويل الدمار إلى فرصة وتمهيد الطريق لتعافي لبنان على الأمد الطويل.
أسفر النزاع الأخير في لبنان بين إسرائيل وحزب الله، الذي تصاعد بشكل كبير في أواخر عام 2024، عن دمار هائل. فَقَدَ الآلاف أرواحهم، وتحوّلت مناطق سكنية جمّة إلى أنقاض، كما تضرّرت البنى التحتية الحيوية بشكل ملحوظ. وفي ذُروَة الأزمة، نزح داخلياً حوالي 1.3 مليون شخص. هذا وأدّى حجم الدمار الهائل إلى ملايين الأطنان من الرّكام، مما يشكل مخاطر فورية وتحديات طويلة الأمد أمام جهود التعافي.
وفي خضم هذا الدمار، قامت الأمم المتحدة في لبنان بتشكيل وتفعيل "فريق عمل أممي معني بإدارة الأنقاض" يُعنى بتنسيق إدارة الأنقاض باعتماد نهجٍ مستدام قائم على حقوق الإنسان. ويهدف هذا الفريق الأممي إلى ضمان تعافٍ آمن وفعّال ومسؤول بيئياً، مع الحرص على حماية حقوق المجتمعات المتضرّرة في السكن والصحة والعيش في بيئة سليمة.
أنقاض الحرب: فرصة لتعافي لبنان
لقد حوّل الدمار غير المسبوق أحياءً سكنية كانت مليئة بالحياة ومزدهرة قبل اندلاع الحرب، إلى مناطق محفوفة بالخطر. وتواجه العائلات العائدة إلى منازلها مخاطر كبيرة تتمثل في انتشار الذخائر غير المنفجرة في أرجائها، والملوّثات البيئية، والمباني المتضررة ضرراً بنيوياً. هذا وقد أصبحت بعض المدارس والمواقع التراثية الثقافية في المناطق المستهدفة في لبنان في حالة خراب.
عنوان الصورة: صورة لمدرسة الجعفري في عيترون، في جنوب لبنان، مدمّرة؛ وهي واحدة من بين العديد من المدارس التي تأثرت بالحرب في لبنان؛ 15 شباط/فبراير 2025.
لقد أدّى انهيار المباني واختلاط النفايات المنزلية بالأنقاض إلى تفاقم المخاطر الصحية والبيئية، مما خلق حاجة ملحة للتدخل الفوري.
بحسب السيدة جيهان سعود، خبيرة في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) وذات خبرة واسعة في إدارة الأنقاض: "إنّ التحديات البيئية وتلك التي تهدّد سلامة الناس هي هائلة. لكن باستخدام الاستراتيجيات المناسبة ومن خلال تعزيز التعاون الفعّال، يمكننا تحويل هذه الأزمة إلى فرصة لتحقيق التعافي المستدام."
عليه، فإنّ اعتماد نهج منظّم في إدارة الأنقاض يركّز على إعادة التدوير وإعادة استخدام المواد الصلبة، مما يقلّل من الحاجة إلى مواد بناء جديدة ويعزز الاقتصاد الدائري. كما يسهم ذلك في خلق فرص اجتماعية واقتصادية، تمكّن المجتمعات من المشاركة بفاعلية في جهود إعادة الإعمار.
يشير السيد حسن دبوق، رئيس بلدية صور ورئيس اتحاد بلديات صور، إلى أهمية التحرك بسرعة لجهة اتخاذ الإجراءات اللازمة:
"إجراء تقييم دقيق للأضرار إنما هو ضروري لمسح المباني المُستهدفة وتصنيفها، وتقدير حجم الأنقاض، ووضع خطة لنقل الأنقاض بما يضمن جمعها والتخلص منها بصورة فاعلة."
كما شدّد على ضرورة إعطاء الأولوية لإعادة تدوير المواد الصلبة مثل الحديد والألمنيوم بغية تقليل الاعتماد على الموارد الخام وتعزيز الاستدامة.
تشدد مداخلة السيد دبوق على الحاجة إلى إعطاء الأولوية لإدارة الأنقاض بصفتها حجر الأساس في جهود التعافي. وحتى يكون تعافي لبنان فعالاً، لا بدّ من أن تضطلع الحكومة بدور محوري في قيادة وتنسيق جهود عملية إدارة الأنقاض، وذلك بالتعاون مع البلديات والمنظمات الدولية والمجتمعات المُتضرّرة. ويشمل ذلك تحديد ملكية الأنقاض، وتبسيط الإجراءات القانونية، وتحديد مواقع معالجتها والتخلص منها. كما أنّ إشراك المجتمعات المحلية والعائدين إلى قُراهم ومنازلهم في جهود إعادة البناء كفيلٌ بضمان عملية تعافٍ أكثر شمولية وتأثيراً.
عنوان الصورة: السيد حسن دبوق، رئيس بلدية صور ورئيس اتحاد بلديات قضاء صور، يقف في باحة مبنى البلدية.
تُعدّ حملات التوعية العامة ضرورة مُلحّة، ليس فقط للوقاية من الحوادث الناتجة عن الذخائر غير المنفجرة أو المواد الخطرة أو حتى التصدّعات في المباني، بل أيضاً لإشراك المواطنين في عمليات صنع القرار وتمكينهم من المشاركة في عملية التعافي. وفي هذا الإطار، أطلقت الأمم المتحدة بالشراكة مع الجيش اللبناني حملة توعية حول مخاطر الذخائر غير المنفجرة. كما تعاونت مع وزارة الثقافة لإطلاق حملة واسعة تهدف إلى حماية الأنقاض في المواقع التراثية وصَونِها.
علاوة على ذلك، فإن تقييم الأنقاض لفَرز المواد القابلة لإعادة التدوير أو تلك التي تحتوي على مكوّنات خطرة، وتشجيع إعادة استخدام المواد في أعمال الترميم وإعادة الإعمار، يمكن أن يسهم في تقليل اعتماد لبنان على الموارد الجديدة والحدّ من التهديدات البيئية.
وفي هذا السياق، قامت الأمم المتحدة، من خلال وكالاتها المتخصصة، بإعداد وتنفيذ "تقييم سريع لأثر الحرب" القائم على آراء المجتمعات المحلية، بالاستناد إلى بيانات من 135 منطقة في مرحلة ما بعد الحرب، يشمل قطاعات مختلفة، كالصحة والتعليم والاقتصاد وغيرها، ودعت المنظمة الأممية من خلال نتائج هذا التقييم إلى اتخاذ إجراءات فورية من أجل تعافٍ في المناطق المتأثرة يرتكز على الإنسان أولاً. كما أجرت الأمم المتحدة تقييماً عن بُعد للأضرار التي لحقت بالمباني في محافظات الجنوب والنبطية والبقاع وبعلبك-الهرمل، وفي الضواحي الجنوبية لبيروت (والتي تشمل أجزاء من محافظتي بيروت وجبل لبنان)، وقد شمل التقييم 15 قضاءً.
لملمة الحطام: العودة الصعبة للمواطنين
عنوان الصورة: ناديا، من مواليد عام 1947 في مدينة صور، عاشت الحروب المتعددة التي مرّ بها لبنان. ومنذ وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني/نوفمبر، تأتي كل يوم وتجلس بجانب أنقاض منزلها، بانتظار مَن يساعدها على العثور على بعض من ملابسها ومقتنياتها.
في مدينة النبطية، تشكّل عودة السكان النازحين مزيجاً من الأمل والتحديات. فالشوارع التي كانت تعجّ يوماً بالحياة أصبحت اليوم خراباً، والعائلات العائدة إلى منازلها تجد نفسها أمام مهمة شاقة لإعادة بناء منزلها من تحت الأنقاض. كانت عودتهم مؤلمة مطبوعة بمشاعر الفقدان والخسارة، لكنها اقترنت أيضاً بإصرارٍ قويّ على البدء من جديد، على إعادة الإعمار، على مجرد البقاء على قيد الحياة.
"بعد أن دخلنا المبنى المدمّر لجَمع بعض مقتنياتنا، وَجَدنا بعض الصّور العائلية القديمة التي ما زالت سليمة"، يروي أحد العائدين إلى مدينته النبطية.
"لم نكن قادرين على تحمّل كلفة إزالة الرّكام بأنفسنا، فطلبنا من متعهّد محلي أن يقوم بذلك مقابل احتفاظه بأي مواد حديدية أو مواد قابلة لإعادة التدوير يمكن أن يعثر عليها."
ورغم أنّ هذا النهج المُعتمَد عمليّ في ظل ارتفاع تكاليف إزالة الرّكام والأنقاض ونقلها، إلا أنه يؤدي في كثير من الأحيان إلى فقدان مواد يمكن الاستفادة منها في أعمال إعادة الإعمار، كما أنّ عمليات الإزالة غير المنظّمة قد تشكّل مخاطر بيئية وسلامة إضافية. لذلك، فإنّ ضمان وجود استراتيجية حكومية منظّمة لإدارة الأنقاض يُعدّ أمراً بالغ الأهمية لتفادي هذه المخاطر.
عنوان الصورة: أحد أحياء مدينة النبطية في جنوب لبنان، تأثر بشدة جراء الضربات المكثفة خلال النزاع الذي دار بين أيلول وتشرين الثاني 2024، ما أدى إلى دمار واسع النطاق ونزوح كبير للسكان؛ التُقطت هذه الصورة في 4 كانون الأول/أكتوبر 2024.
فريق عمل أممي معني بإدارة الأنقاض: استحداث إطار عمل مشترك ومستدام
في صلب جهود الأمم المتحدة في لبنان في أعقاب النزاع، يبرز "فريق عمل أممي معني بإدارة الركام والأنقاض" والذي أعدّ إطاراً شاملاً يوجّه عملية إدارة الأنقاض في فترو ما بعد النزاع. ويتألف فريق العمل هذا من عشر وكالات أممية، هي برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، ومنظمة العمل الدولية، ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، ودائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، وبرنامج الأغذية العالمي، ومكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع. وتعمل هذه الهيئات الأممية سوياً لضمان عملية إزالة الأنقاض بطريقة آمنة وفعّالة ومسؤولة بيئياً، مع الحرص على مشاركة المجتمعات المتضرّرة بشكل فعّال في عملية التعافي.
"هدفنا لا يقتصر فقط على تقديم المساعدة في إزالة الأنقاض والركام بأكثر الطرق فعالية، بل أيضاً الحرض على أن تتم هذه العملية بطريقة تحمي البيئة والصحة العامة"، يقول السيد عمران ريزا، المنسق المقيم للأمم المتحدة ومنسق الشؤون الإنسانية في لبنان.
" نحن ملتزمون بتعزيز ممارسات مستدامة وصديقة للبيئة تساهم في دعم مسار التعافي على الأمد الطويل وتعزز الصمود أمام الأزمات".
عنوان الصورة: السيد عمران ريزا، المنسق المقيم ومنسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة في لبنان، برفقة محافظ النبطية السيدة هويدة الترك، ووزير البيئة اللبناني السابق ورئيس لجنة الطوارئ التابعة للحكومة اللبنانية السيد ناصر ياسين، خلال جولة في مدينة النبطية في جنوب لبنان عقب إعلان وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله؛ 4 كانون الأول 2024.
شدد السيد إيلي منصور، وهو خبير في موئل الأمم المتحدة (UN-Habitat)، على أهمية الصحّة والسلامة في مثل هذه المبادرات، فقال:
"تبدأ إدارة الأنقاض الفعالة بالكشف والتفتيش عن الأنقاض لرصد أي ذخائر غير منفجرة أو ملوثات أخرى. وإذا لم يكن من الممكن فرزها أو إعادة تدويرها في الموقع نفسه، يجب نقل الأنقاض بأمان إلى مواقع مخصصة لمعالجتها. كما يجب إعطاء الأولوية لعملية إعادة التدوير بهدف استرجاع المواد التي يمكن استخدامها في إعادة الإعمار."
ويعمل فريق العمل الأممي أيضاً على الاستفادة من المنهجيات الدولية الخاصة بتقدير حجم الأنقاض، مما يمكّن من التخطيط الفعّال لأعمال إزالة الركام والأنقاض، وإعادة تدويرها، والتخلص منها في مواقع مُعتمدة بيئياً مثل المحاجر المهجورة، وذلك لتفادي المزيد من تدهور المناظر الطبيعية في لبنان.
شراكات في سبيل التعافي
يتوقف نجاح عملية التعافي على التعاون بين مختلف الجهات المعنية، وهو ما تعمل الأمم المتحدة على تعزيزه عن كثب. وتُعدّ الحكومة، بما في ذلك وزارات البيئة، والأشغال العامة، والصحة، والثقافة، إلى جانب البلديات والاتحادات، الجهات الأساسية المعنية بوضع استراتيجية مستدامة لإدارة الأنقاض وتنفيذها.
كما يؤدي الجيش اللبناني والمركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام دوراً محورياً في تقييم المخاطر وإزالة الذخائر غير المنفجرة، وذلك بالتعاون مع البلديات بهدف التعامل مع المخاطر الناجمة عن بقايا المتفجّرات من الحروب. كما تساهم المؤسسات الأكاديمية في تقديم الخبرات الفنية في مجال تقدير كميات الأنقاض وإدارتها.
وفي الوقت نفسه، يلعب القطاع الخاص، لا سيما جمعية الصناعيين اللبنانيين، دوراً محورياً أيضاً في هذا الإطار. فمن خلال الشراكات القائمة بين القطاعين العام والخاص، يتم استحداث واعتماد تقنيات مُبتَكرة لإعادة التدوير وممارسات مستدامة تُسهم في خلق فرص العمل وتقليل النفايات.
"نرى في هذه المرحلة فرصة لإعادة البناء بطريقة أفضل وأكثر مراعاة للبيئة"، يقول متحدّث باسم جمعية الصناعيين اللبنانيين.
"فمبادرات الاقتصاد الدائري التي نقوم بها هي قادرة على تحويل الأنقاض إلى مواد بناء قابلة لإعادة الاستخدام، مما يعزز النمو الاقتصادي ويحدّ من التلوث."
ويبقى ضمان الأجور العادلة، وظروف العمل الآمنة، والحماية الاجتماعية للعمّال المعنيين بإزالة الأنقاض والرّكام، من أولويات الأمم المتحدة. فهذه المبادئ تُعتبر جوهرية ضمن جهود الأمم المتحدة وجهود الحكومة وغيرها من الشركاء، الرامية إلى تحقيق تعافٍ في البلاد يكون قائماً على مفهوم العدالة والسلامة والكرامة.
عنوان الصورة: ضريح العالِم والمخترع اللبناني حسن كامل الصبّاح في النبطية، جنوب لبنان، يظهر الدمار الهائل التي تسببت به الحرب.
رؤية لمستقبل لبنان: تعافٍ مستدام قائم على حقوق الإنسان
إنّ مسار لبنان نحو التعافي طويلٌ، لكن بفضل الجهود المُنَسّقة بين الحكومة، والأمم المتحدة، والجهات المعنية المحلية، والشركاء الدوليين، فإنّ تحقيق مستقبل مستدام أصبح ممكناً. من خلال إعطاء الأولوية لممارسات مستدامة لإدارة الأنقاض، وعبر ضمان الحماية الثقافية والبيئية في هذا المضمار، واعتماد نهج قائم على حقوق الإنسان، من الممكن أن يبني لبنان مستقبلاً أقوى وأكثر ازدهاراً.
"لقد اختبرتنا هذه الأزمة جميعاً، لكنها أظهرت أيضاً قوة العمل الجماعي وفعالية الجهود المُنسّقة للأمم المتحدة مع شركائها، خصوصاً مع الحكومة"، يقول ريزا.
في حين يخطو لبنان خطواته الأولى نحو التعافي، يبقى الأمل بأن تساهم هذه الجهود المتضافرة ليس فقط في استعادة ما فُقِدَ، بل التأسيس أيضاً لمستقبل أكثر إشراقاً واستدامةً.